Friday, August 13, 2010

تاريخ الجراحة الترميمية والتجميلية


تاريخ الجراحة الترميمية والتجميلية
د.أحمد عيسى دياب
استخدم  مصطلح (Plastic  ) في الجراحة لأول مرة عام 1818 وذلك عندما استخدمه الجراح الألماني "carl ferdinand von graefe"  كعنوان لبحثه عن جراحة الأنف الترميمية (Rhinoplastik) ، وبعد ذلك تم استخدام المصطلح بشكله الأوسع (Plastic Surgery  ) لوصف الجراحة الترميمية ككل بشقيها  التجميلي والترميمي الوظيفي وليس لوصف للعمليات المجراة على الأنف فقط، أما عن أصل كلمة  Plastic فيعود إلى اللغة اليونانية القديمة PLASTIKOS والتي تعني يقولب أو يصنّع.

الشكل (1) - الصفحات 6-7 من بردية Edwin Smith الفرعونية والتي يرجح أنها كانت قد كتبت في الفترة بين 2500-3000 قبل الميلاد، تمت ترجمة هذه البردية بشكل كامل عام 1930 م.
وعلى الرغم من إشارة بعض المراجع إلى كون الفراعنة هم أقدم من مارس هذه الجراحة في الألفية الثالثة قبل الميلاد، إلا أنها كانت لا تتعدى ممارسة بعض الإجراءات البسيطة كرضوض الوجه بما فيها كسور الأنف والفك. وفي حين أن المصريين القدماء لم يقوموا بإجراءات جراحية كبيرة في هذا المجال على الأحياء، إلا أنهم وبلا شك قد استخدموا تقينات الجراحة الترميمية في تحضير الأموات، فعلى سبيل المثال تم تعديل مومياء الملك رمسيس الثاني جراحياً وذلك بإدخال عظم صغير وحفنة قليلة من البذور داخل الأنف وذلك لضمان عدم تغير أبرز معالم الوجه ولضمان التعرف عليه في الحياة الأخرى حسب المعتقدات الفرعونية آنذاك، كما تم تعديل مومياء الملكة Nunjmet وذلك بحشو ضمادات في الخدود والبطن وذلك بنفس لمسات وذوق جراحي التجميل في عصرنا الحالي أثناء زرعهم للسيلكون في الجسم. وعلى الرغم من أن  بردية Edwin Smith الجراحية (شكل 1) كانت قد بينت اقتناء الفراعنة لمثل ههذ للمهارات الجراحية على الأحياء إلا أنه لا توجد أي وثيقة واحدة تشير إلى أنهم قاموا بها بالفعل على الأحياء، ويرجع العلماء التردد في ممارسة الجراحة الترميمية على الأحياء إلى المعتقدات الفرعونية التي تؤمن بأن وجه المرء يبقى نفسه في الحياة الآخرى، ولذلك يجب أن يبقى كما هو قابلاً للتعرف عليه كما كمان حتى بعد الموت.
أما عن البداية الحقيقية الفعلية لهذه الجراحة فقد تمت على يد الهنود في في الفترة بين 600 و 1000 قبل الميلاد، ويعتبر التاريخ الشرقي  للجراحة الترميمية عموماً الأقدم تاريخياً، كما أنه  تضمن استخدام الشرائح الجلدية في الترميم، ويعد الجراح الهندي سوشروتا (Sushruta) صاحب الصورة المجاورة أبو الجراحة الترميمية، ففي زمن اقتضت فيه عادات الهنود ومعتقداتهم بقطع الأنف أو الأذن أوتشويه الوجه كعقاب مسستحق للسارق والزاني وغيرهم من المغضوب عليهم ، كان الجاني يسعى بعدئذٍ إلى التخلص من الوصمة بعمليات من التجميل الجراحي، وفي هذا السياق استطاع هذا الجراح (سوشروتا) من أن يجرى أول جراحة ناجحة لإعادة ترميم الأنف بشكل كامل بشرائح جلدية مأخوذة من الجبهة أو الخد كما في الشكل (2).








الشكل (2) - الطريقة الهندية لتصنيع الأنف، والتي تتضمن أخذ شريحة جلدية من الجبهة أو الخد، لقد تم إخفاء هذه الطريقة كأحد أهم الأسرار الجراحية لقرون عدة في الهند.
الصور مأخوذة من مجلة Gentelmen’s Magazine 1974
الشكل (2) - الطريقة الهندية لتصنيع الأنف، والتي تتضمن أخذ شريحة جلدية من الجبهة أو الخد، لقد تم إخفاء هذه الطريقة كأحد أهم الأسرار الجراحية لقرون عدة في الهند.
الصور مأخوذة من مجلة Gentelmen’s Magazine 1974








لقد تضمنت كتابات سوشروتا كل مبادئ الجراحة التجميلية الأساسية، كما تضمنت وصف لمختلف الطرق الترميمية لترميم العيوب أو الإصابات المختلفة، كاستخدام الشرائج الجلدية الصغيرة لتغطية المناطق المصابة، أو تدوير الشرائح الجلدية لتغطية الضياع الجلدي الجزئي، أو استخدام الشرائح المعنقة لتغطية الضياع الجلدي الكامل.

وفي بدايات القرن الأول قبل الميلاد وفي زمن الامبراطورية الرومانية مارس الجراحون الرومان اجراءات جراحية ترميمية أقل تعقيداً مما صنعه الهنود قبلهم مثل تجميل إصابات الأذن وإزالة الندبات الناجمة عن الحروب أو المصارعات،وقد كانت الأسباب وراء هذه الممارسة إما أسباب ترميمة للجنود المصابين أو لأسباب تجميلية بحتة لأفراد الطبقات العليا، أو للأشخاص الذين يرتادون الحمامات العامة ويريدون الظهور بأجسام مثالية خالية من العيوب كالعبيد المحررين حديثاً.

ومع انحدار الامبراطورية الرومانية وبداية عصر الظلام خسرت الامبراطورية تقدمها في معظم المجالات وخاصة المجال الطبي، ولكن ظهور الإسلام وصعود نجمه ساهم في الحفاظ على الكثير من هذه الإنجازات حية ومشرقة في الشرق، ففي زمن الخلافة العباسية وبالتحديد في عهد الخليفة أبو جعفر المنصور(753- 774 م) ترجمت أعمال سوشروتا إلى اللغة العربية بأمر من الخليفة بنفسه، ثم وجدت هذه الترجمات طريقها فيما بعد إلى أوروبا عبر الوسطاء والتجار وتلقاها الإيطاليون والإنكليز على وجه الخصوص، حيث سافر العديد من الجراحين الإنكليز إلى الهند وعكفوا على تعلم تجميل الأنف من قبل الهنود على مدى عدة عقود، وبعد عودتهم نقلوا هذه المعرفة إلى العالم الغربي وأضافوا عليها الكثير فكانت أولى مساهماتهم أن قاموا بتطوير أدوات الجراحة الترميمية بشكل كبير، وقد تأخرت ترجمة أعمال سوشروتا للإنكليزية حتى عام 1903 وقد ترجمت في ثلاث مجلدات.
وفي زمن الحروب الصليبية من أواخر القرن الحادي عشر وحتى القرن الرابع عشر بدأ الأوروبيون يبدون اهتماماً أكبر للطرق الإسلامية  والشرقية في الطب والجراحة وقد تم إدراج هذه النظم الطبية في المشافي الميدانية لمعالجة الجنود الصليبيين، لكن في الحقيقة يمكن القول أن علوم الجراحة لم تمارس عموماً بشكل شائع في أوروبا حتى القرن التاسع عشر والقرن العشرين، فقد تأخر تطورها وممارستها بسبب الكنيسة التي حرمت على رجالها تعاطي الجراحة معاطاةً قطعية، وتركت "للمتحضرين" المتمرنين ذوي الخبرة البدائية مهنة الجراحة ومعالجة الجراح المدماة،  وعموماً كانت العلوم الطبية آنذاك محرمة وينظر إليها كضرب من ضروب الهرطقة مثلها مثل الأمراض تماماً التي عزوها إلى  مس الشياطين وعالجوها بتطيهر الروح.





الجراح الإيطالي Gaspare Tagliacozzi (1546 – 1599)، والتقنية الإيطالية التي وصفها في كتابه












الجراح الإيطالي Gaspare Tagliacozzi (1546 – 1599)






 



ومع بداية عصر النهضة بدأت العلوم الجراحية بالانتعاش من جديد، فقد بدأ الجراحون الأوروبيون يمارسون التقنية الهندية في تصنيع وترميم الأنف، كالجراح Heinrich von Pflapaint في ألمانيا و Branca في صقلية، وقد ورث ابن Branca هذه التقنية عن والده (والتي كان قد احتفظ بها كسر عائلي) ثم طورها وعدل عليها بأخذ الشرائح الجلدية من الذراع ( وهو ما أطلق عليه بالتقنية الإيطالية) خلافاً للطريقة الهندية التي يتم أخذ الشرائح فيها من الجبهة أو الخد، وقد تم إنجاز هذه التقنية بشكل تام قبل أن يصفها فيما بعد الجراح الإيطالي Gaspare Tagliacozzi وتسجل باسمه وذلك بمئة عام، حيث وصف هذا الجراح هذه التقنية في كتابه الذي نشر عام 1597 م في فينيسيا، وقد أمضى سنوات كثيرة وهو يمارس هذه التقنية خلال القرن السادس عشر الذي شاع فيه وباء الافرنجي  (Syphilis).

 

وولدت الجراحة التجميلية من جديد في أواخر القرن الثامن عشر، حيث بدأت حقبة الجراحة التجميلية الحديثة عام 1794 عندما قرأ  Joseph Carpue في مجلة (Gentelmen’s Magazine ) في لندن رسالة تصف الطريقة الهندية في تصنيع الأنف، وانكب من بعدها على القيام بدراسات كثيرة عن هذه التقنية ثم بدأ بممارسة هذه الطريقة في إنكلترا حيث أجراها على جثتين أولاً قبل أن يقوم بتصنيع الأنف بشكل تام على الأحياء مرتين ويقوم بنشر مقال بهذا الإنجاز، وتعممت هذه التقنية لاحقاً على سائر أرجاء أوروبا وتم استخدامها في معالجة الجنود المصابين أثناء حروب نابليون بين عامي (1804-1815(  وقد تميزت هذه الحقبة بكونها حقبة بطولية في تاريخ الجراحة، حيث كانت معظم الجراحات الحربية تقام بشكل سريع بغياب التخدير لكنها ساهمت في تطوير الكثير من الأدوات الجراحية.
في عام  817 أجري أول تطعيم جلدي ناجح في العصر الحديث من قبل الجراح البريطاني Astly Cooper الذي استخدم هذه التقنية  أثناء قيامه ببتر لإبهام اليد، وبعد ذلك بعام واحد في عام 1818 م بدأ الجراح الألماني carl ferdinand von graefe بممارسة إجراءات الجراحة التجميلية الوجهية في ألمانيا، وكذا بين عامي (1823-1828( وصف الجراح Delpech في فرنسا إجراءات تجميلية أكثر للحالات المعقدة في ترميم الوجه والأنف، وفي عام 1832 كتب Duputyren  عدة مقالات في جراحة اليد الوظيفية، وفي عام 1845 وصف Diefenbach إجراءات متعددة لجراحة شقوق الحنك. وبعد عدة أعوام طور كل من Lawson & Wolfe الطعوم جزئية وكاملة السماكة والطعوم المركبة.

ومع نشوب الحروب العالمية أصبحت هذه الجراحة أكثر شيوعاً وأكثر طلباً من ذي قبل وذلك بسبب الضرورة التي خلقتها هذه الحروب، وقد ساعد تطور علم التخدير كثيراُ في هذه الفترة، فقد مثلت الحروب آنذاك القوة الباعثة وراء تطور الجراحة الترميمية، فخلال الحرب العالمية الأولى (1914-1918) وبسبب إصابات الوجه المتعددة أنشأ الجراح Hippolith Morestin مركزاً لمعالجة الرضوض الحربية في الخطوط الأولى للجيش الفرنسي وطور فيما بعد تقنية Z في الجراحة الترميمية (Z Plasty) وأطلع العديد من الجراحين البريطانيين والأمريكيين على هذه التقنيات، كما ابتكر الجراح Sir Harold Gillies وهو طبيب أذن وأنف وحنجرة نيوزلندي، ابتكر تقنية الشرائح الأنبوبية أو القمعية (Tubed Flaps) وهي تقنيات للإجراءات الترميمية المتعددة  للوجه والجسم، وقد نقل طلاب Gillies وهم جراحون أمريكيون فنون هذه الجراحة إلى الولايات المتحدة الأمريكية.
وفي الفترة التي تلت الحرب العالمية الأولى تم تطبيق التقنيات الترميمية المكتسبة أثناء الحرب على المدنين بهدف ترميم الإصابات الوجهية المختلفة، وفي هذه الفترة بالذات بدأت تتغير دواعي الجراحة الترميمة من إصلاح التشوهات والعيوب والإصابات إلى تحسين المظهر، أي تغير الدافعي الجراحي من ترميمي إلى تجميلي بحت.
وساهم نشوب الحرب العالمية الثانية فيما بعد في إنضاج هذه الجراحة، فقد جلبت هذه الحرب أنواع جديدة من الإصابات كحروق الوجه وإصابات  الأعصاب وأذيات الأطراف المتهتكة، وبهذا خلقت هذه الحرب الحاجة وبدرجة أكبر لتدريب عدد أكبر من جراحي الترميم فتم إنشاء المراكز التدريبية الميدانية من قبل قوات الجيش والبحرية  الأمريكية، ثم أدرجت فيها البرامج التدريبية تباعاً. ويقدر أن التطور الذي لحق بالجراحة الترميمية خلال سنوات الحرب العالمية الثانية الست يعادل ما حققته من تقدم خلال خمسين سنة من سنوات السلام الخالية من الحروب
 تم استدعاء العديد من الجراحيين ليعالجوا عدد كبير من  الجنود المصابين بإصابات مختلفة أدت إلى فقدانهم أنوفهم أو آذانهم أو شفاههم أو أجزاء منها، أو تعرضوا لإصابات أخرى في بقية أجزاء الجسم كالحروق أو إصابات الوجه والأيدي. كما أن الأسلحة الحديثة نسبياً سببت أنواعاً ودرجات من الأذيات لم يسبق لها مثيل في التاريخ، مما جعل بعض من أعظم المواهب الطبية تكرس نفسها بشكل كامل لاستكشاف تاريخ جراحة التجميل وخلق تقنيات جديدة لعلاج الرجال المشوهين من جراء الحروب، وفي هذا الوقت بالذات بدأت  الجراحة التجميلية تأخذ مكانها في تاريخ الجراحة الترميمية، عندما أدرك الجراحين تماماً تأثير المظهر على النجاح الفردي.
 لقد أصبحت الجراحة الترميمية والتجميلية مصطلحات متداخلة في أعين الناس، لكن الحقيقة ليست كذلك في السياق الطبي والتاريخي، فالجراحة الترميمية وهي الأقدم بالنشوء وهي تشير إلى الإجراءات الجراحية الهادفة لإعادة تشكيل التشوهات بهدف مظهر ووظيفة طبيعيين أو أقرب ما يكون للطبيعي، في حين أن مصطلح الجراحة التجميلية ينطوي على الإجراءات الجراحية الانتخابية المجراة لأسباب جمالية بحتة.

ولا تزال هذه الجراحة تشهد الكثير من التطورات في العصر الحالي، بدءً من تطوير تقنية استنبات الجلد لتغطية الضياعات الجلدية وصولاً إلى إجراء زراعة الوجه الكامل.


Dr.Ahmad Issa Diab  MD-PHD
Cosmetic and Plastic Surgeon